محاكمة النقل إلى العقل
لكن هل يقتضي ذلك أن يحاكم الوحي إلى العقل أو هذا الدليل؟ لا، ونضرب لهم هذا المثل للإيضاح فنقول: إذا جاء جماعة من الناس يريدون العلم، والخير في بلد ما، وقالوا: نريد من يدلنا على عالم نأخذ عنه الدين والفتوى، فدلهم رجل عامي من أهل القرية على العالم، فتعلموا ما شاء الله أن يتعلموا، فلما أرادوا العودة قابلهم الدليل وهو العامي، فقال: اعرضوا عليَّ كل ما تعلمتم حتى أميز لكم الصحيح من الضعيف، والحق من الباطل، فإن قالوا له: ما حجتك؟ فيقول: ألم أدلكم على الشيخ العالم المجتهد فتعلمتم منه؟ فيقولون: بلى، فيقول: إذاً من حقي أن أتحكم فيما أخذتم عنه من علم، فيقال له: أما دلالتك على العالم فحق، ونحن لا ننكر ذلك، بل نثني عليك بذلك، وأما أن تكون الحكم فيما يقول العالم، وتصبح فوق العالم لمجرد أنك دللت عليه؛ فهذا لا يصلح أبداً، وبالتالي فالعقل الصادق الصحيح هو مثل العامي الصادق، فهو يدل على العالم -ولهذا تجد بعض العوام لا علم لديه، لكنه يستطيع أن يميز بين العلماء، وبين الناس، وبين الكتب؛ لأن عنده بصيرة يعرف بها الحق- لكن هل يعني ذلك أنه يحكَّم في كلام العلماء؟ لا يمكن ذلك، فهذا هو المثال الذي ضربه العلماء في هذا، بالإضافة إلى المقدمة المهمة التي لا بد أن لا تفوتنا أيضاً في هذا الباب، وهي أنه لو افترضنا أن جماعة قدموا إلى هذا العالم وقالوا له: نحن نأخذ عنك العلم، فأخذوا عنه العلم بالدين أصولاً وفروعاً، ثم قالوا: سنرجع إلى شيخ قبيلتنا الذي بعثنا من هناك ونحكمه في هذا، فهل يكونون فعلاً واثقين في علم هذا العالم، مصدقين له؟ لا، بل سيكونون غير واثقين، وإلا فكيف تتعلمون عنده هذه السنين الطويلة، ثم يتوقف قبولكم لعلمه على إقرار شيخ القبيلة الذي بعثكم؟ ولو فرض أن هذا العالم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه صلى الله عليه وسلم بعض الوفود في المواسم، مثل: وفد بني تميم، وبني عامر وأمثالهم، فقابلهم وعرض عليهم ما عنده، فما وجدوا في الكلام أي مطعن، بل هو حق مفيد عظيم تشهد له العقول وتقر به القلوب، فلو قالوا: لا بد أن نرجع إلى قبيلتنا، وما آمنوا ولا انقادوا كما فعل الأنصار رضي الله تعالى عنهم، بل بنو تميم مثلاً رجعوا إلى أكثم بن صيفي أحد حكماء العرب في الجاهلية وأخبروه بالخبر، فلامهم وعاتبهم، فهؤلاء لا يعدون مؤمنين؛ لأنهم لم يأخذوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مأخذ الإيمان والإذعان والانقياد والتسليم، وإنما حفظوه ثم أخذوا يعرضونه على من يؤيده أو يرفضه، فنقول: كذلك الحال فيمن يقولون: لا بد من تحكيم العقل -بزعمهم- فالعقل هو شيخ القبيلة كتطبيق لهذا المثال، والذين يقولون: نحن مسلمون، نحن مؤمنون، ثم يقرءون الآيات ويسمعون ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، ثم يقولون: لا نؤمن بها حتى نعرضها على ما قرره علماء الكلام من القواعد العقلية؛ فإن وافقتها أثبتنا مقتضاها وآمنا بهذه الصفات والقدر وغيرهما، وإن خالفتها رددناها، فنقول: أنتم مثل هؤلاء، إلا أنهم تحاكموا إلى شيخ القبيلة، وأنتم أرجعتم الأمر إلى أهواء وآراء المتكلمين والحكماء وغيرهم، فما الفرق إذا قلتم: إن أولئك ليسوا مؤمنين؟! فكذلك أنتم في الحقيقة لستم بمؤمنين ومذعنين ومصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقتضى الإيمان به هو التسليم الكامل القطعي في كل ما جاء به.